ترسخت، خلال القرنين الثالث عشروالرابع عشر للهجرة، على امتداد طريق الحاج صورة للشناقطة وعلمهم وزهدهم في الدنيا، لم يلبث فرط الإعجاب أن أكسبها طابعا أسطوريا . وليس من شك أن هذه الصورة الأسطورية للزهد والعلم الشنقيطيين كان نتاجا لتراكم كبير من جهود الحجيج من العلماء والزهاد في مجالات متنوعة: في التدريس والتأليف والتحقيق والقضاء والنضال، وليس من شك كذلك أن أشهر أنموذج للشناقطة في هذا المجال هو الشيخ محمد محمود بن التلاميد الشنقيطي، الذي تتمحض هذه الندوة اليوم لرد القليل من الجميل إليه بعد أكثر من مائة عام من رحيله وحيدا فريدا نائيا عن أهل ووطن خلد لهما الكثير من حسن الثناء.
تتوزع المكتوب حول ابن التلاميد في رأينا ثلاثة مناح :-
أولًا منحى التعريف الموضوعي به وبجهوده العلمية والأدبية
ثانيُا منحى التحقيق .
ثالثًا منحى التنويه به وبجهوده والتأكيد على أـنه وأضارابه من الشناقطة كانوا مؤسسي النهضة العربية الحديثة في بلدان المشرق التي كانت تجهل تراثها ..إلى آخر المعزوفة.
وليس من وكدنا في هذه الورقة أن نحاول التعريف بابن التلاميد لأن النكرات – كما نكرر دوما– لا تعرف المعارف، وأما تحقيق ابن التلاميد فليس من ألعاب الهواة، وإن كنت أود استطرادا أن أشيد بالتحقيق الرائع الذي أنجزه أخونا وزميلنا الدكتور محمد محمود بن صدفة لكتاب “إحقاق الحق وتبريء العرب مما أحدث عاكش اليمني في لغتهم ولامية العرب” والذي ينتظر النشر منذ فترة ليست باليسيرة
بالقدر ذاته لا نود الانجراف في تيار التنويه الذاتي الذي يسود قطاعات واسعة من الخطاب العربي المعاصر، ولا نزعة الاحتكار التي سادت السوح الثقافية العربية مع نشوء الدولة الوطنية على مستوى العالم العربي حين احتيج في ترسيخ الحدود السياسية (التي كانت اعتباطية في كثير من الأحيان) إلى بناء حدود ثقافية؛ وقامت – بقدر ما نجد من نزاعات على الحدود السياسية – نزاعات حول رموز الثقافة وأعلامها. ولد التلاميد في رأينا المتواضع ملك للثقافة العربية جمعاء لا يسعه على ضآلة جرمه ونحافة جسمه قطر واحد من بلاد العرب ولا من دار الإسلام مهما ترامت أطرافه. ومن هنا يكون من الإنصاف لابن التلاميد ولمعاصريه من المثقفين العرب أن تنزل جهوده في سياقها من الأسئلة الكبرى التي طرحت على الثقافة العربية منذ أن بدأ الاحتكاك بثقافة الغرب في أواخر القرن الثامن عشر، وما انجر من إلحاق الوطن العربي قسرا – وبصورة متفاوتة – بالعصر الحديث
هموم المنطلق :
بعد الضربات المتتالية التي تلقتها الثقافة العربية في كبريات حواضر المركز كان من المنطقي أن تتشبث بالبقاء في الأطراف ولم يكن من الغريب أن تحقق هذه الأخيرة أو بعضها على الأقل مستوى معقولا من تمثل الموروث ومحاولة إثرائه. تلك كانت حالة الثقافة العربية الإسلامية ببلاد شنقيط في القرن الثالث عشر للهجرة. ولعل مرد ذلك الازدهار إلى ما يمكن أن يلحظ في هذا العهد من نضج شامل، كان من تجلياته النزوع إلى تجاوز تجاذبات الماضي بتأصيل كيان جديد أساسه تقبل الآخر في الثقافة والمجتمع: باستيعاب النزعات الدينية المتناحرة التي ظهرت في القرنين السابقين، وبتعقل الوجود الاجتماعي وتقبل بعض مكوناته بعضا، كيان ينتمي إلى كل ثقافي إسلامي عربي ولكنه، في الوقت ذاته، يحمل خصوصيته المميزة التي تشهد لها لهجته العربية (الحسانية) بشعرها وموسيقاها العالمة. وليس هذا بالغريب فالنزوع نحو الوحدة والاستقرار خصيصة بارزة من خصائص التاريخ العربي الإسلامي.
غير أن هذا القرن كان يقف على مشارف أزمة جديدة: ثقافية تتمثل في ضرورة الاجتياز من تمثل الثقافة العربية نحو الإضافة إليها (في مجالين على الأقل)، وحضارية تتمثل في ترسخ الوجود الأجنبي على تخوم البلاد، بما يعني ذلك من تهديد لوجود هذا الكيان في ركنه القصي من دار الإسلام. وتتضافر دلائل عديدة على أن القوم لم تكن لديهم عن هذا الخطر الداهم ومصدره وعن الحضارة الحديثة برمتها – في أحسن الأحوال – إلا صورة ضبابية مشوشة. من هذه البلاد هاجر ابن التلاميد وغيره من علماء الحجيج ورغم انخراط بعضهم في النضال فإن الكثرة الكاثرة وجدت في تعليم العلم والاستزادة منه شغلا عما استحوذ على المثقفين بالمشرق العربي من هم نهضوي. ولعل ما ورد في رسالة ابن الأمين إلى القاضي السالك ولد باب ولد أحمد بيبه يوضح هذا الأمر :
” وأما محمد محمود بن التلاميد فإنه توفي هذا العام في ذي القعدة وقد خلف ألفي كتاب وقد أوصى مفتي مصر وهو محمد عبده فيلسوفي أهل الشرق على أنه ينقل الكتب ويضعها في الكتبخانه الخديوية فلما مات محمد محمود أراد عبده أن يأكل الكتب”
فما يشتغل به محمد عبد من طرح لمسألة الإصلاح والنهضة فلسفة والفلسفة “محض الضلال والسفه”
إشكاليات المستقر :
يقول محمد عابد الجابري :
“في (…) الثمانينات من القرن التاسع عشر أخذ يتبلور في الساحة العربية وتحت وقع الصدمة مع الغرب وعي عميق بالتأخر وبالتالي بضرورة النهضة (…) نعم إن بدايات اليقظة العربية الحديثة يمكن الرجوع بها إلى ما قبل هذا الوقت بكثير (…)
ومع ذلك فإن الوعي بالتأخر لم لم يتبلور في تيار فكري يطرح شروط النهضة ويدخل في جدال مع الآخر الغرب بوصفه يمثل بسلاحه وصناعته وفكره أكبرتحد للعرب إلا (…) حينما أسس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده جمعية العروة الوثقى”
ولم يكن السؤال النهضوي سؤالا علميا بقدر ما كان سؤالا إيديولوجيا مشرعا، مشرعا لرفض الحاضر والماضي القريب، بالرجوع إلى ماض يستجيب لمطامح التغيير. أي أن رفض الحاضر والماضي القريب كان يستمد مشروعيته من العودة إلى ماكان عليه السلف الصالح من إسلام صحيح. غير أن العودة إلى ماكان عليه السلف الديني الصالح لم تكن ممكنة دون الرجوع إلى ماكان عليه السلف الأدبي الصالح من أضراب امرئ القيس والفرزدق وبشار وأبي نواس وأبي العلاء، فبالرجوع إلى هذا التراث، حصرا، تكتسب الأهلية للعودة إلى الأصول، للخروج من إسار التقليد (في الفقه) والتأويل (في التصوف) اللذين كانا يتوزعان مجتمع العلم في مجمل حواضر المركز.
من إسهام الشنقيطي :
لهذا لم يكن غريبا أن يتحسر الشيخ محمد رشيد رضا على عدم استفادة الأزهريين من علم ابن التلاميد الشنقيطي
“وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة، ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته”
والواقع أن علاقة ابن التلاميد بالشيخ محمد عبده قد قادته إلى الأزهر ليقدم فيه درسا لم يكن آنذاك بالمألوف هو درس الأدب، الذي يحدثنا عنه طه حسين في الجزء الثاني من كتاب الأيام :
“لم يكد الصبي يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء، سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام له وبره به، (…) كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب وكانوا يذكرون إقامته في المدينة ورحلته إلى قسطنطينية والأندلس وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك، وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في أوربا وأنه لم يكن يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق أكثر وقته في دار الكتب قارئا أو ناسخا (…)وكان الشيخ يقرأ لبعض طلابه هذه القصائد التي تعرف بالمعلقات، وكان أخو الصبي وبعض أصدقائه يسمعون هذا الدرس في يوم الخميس أو في يوم الجمعة وكانوا يُعدون هذا الدرس كغيره من الدروس.
وكذلك سمع الصبي لأول مرة:
فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل”
وإذا كان الطلاب الكبار كما يقول طه حسين لم يستسيغوا درس الأدب، فإن من جيله هو، الزيات من لازم ابن التلاميد وأخذ عنه حتى غيبه الموت” كما يروي الأستاذ أحمد حسن الذي كان أكثر اعتزازا بهذه التلمذة، شأنه في ذلك شان المويلحي في إهدائه لحديث عيسى بن هشام:
“ألف المؤلفون أن يبدأوا كتبهم عند نشرها بإهدائها إلى بعض ذوي الشأن والفضل والعاجز الضعيف يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرؤه من أديب يجد فيه طرفا من الأدب وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة وعالم يبصر فيه شذرة من العلم ولغوي يصادف فيه أثرا من الفصاحة وشاعر يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال.
كما أهديه إلى أرواح المرحومين الأديب الوالد والحكيم جمال الدين والعالم محمد عبده واللغوي الشنقيطي والشاعر البارودي أولئك الذين أنعم الله عليهم وأولئك الذين تأدبت بأدبهم وأخذت عنهم”
أليس في ما سبق، وفي ما سواه من تصحيح وتحقيق لأمهات المصادر العربية، وفي ما أسهم به شناقطة آخرون مساغ لما نتمدح به كثيرا من فضل للشناقطة المهاجرين في نهضة بلدان المشرق العربي؟ لا نظن أحدا يماري في ذلك وما الحفاوة التي لقيها علماء الشناقطة بهذه البلدان في حياتهم وبعد مماتهم إلا آية من آيات العرفان بهذا الجميل. على أن من الموضوعية ألا ننسى أن الشناقطة على علمهم وفضلهم كانوا تراجمة عن السلف الصالح أكثر مما كانوا أولي فقه واع بالعصر وتحدياته يؤسس لمشروع حضاري “فكري يطرح شروط النهضة ويدخل في جدال مع الآخر” كما ذكر الجابري آنفا. ومن ثم يكون لأصحاب هذا المشروع الفضل في “تثمين” العلم الشنقيطي باستنقاذه من غيابات الماضي وربطه بمشاغل الحاضر المعيش. بحيث يمكن التجاسر على القول إن إحياء الثقافة العربية كان – في جانب كبير منه – جماع ما بين العلم الشنقيطي والإيديولوجية المشرقية العربية المعاصرة.
د / محمد بن تتا